نبذة عن فرقة الإباضية
(تعريف)
أبريل 2009
دكتور محمد عيسى قنديل
مقدمة:
وفقاً للموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة فإن الإباضية فرقة معتدلة من فرق الخوارج، إلا أن أصحابها والمنتسبين إليها ينفون عن أنفسهم انتسابهم إلى الخوارج؛ إذ يعدون مذهبهم مذهبًا اجتهاديًا فقهيًا سنيًا يقف جنبًا إلى جنب مع الشافعية، والحنفية، والمالكية، والحنابلة.
تنسب الإباضية إلى مؤسسها عبد الله بن إباض من بني مرة بن عبيد بن تميم، الذي يرجع نسبه إلى إباض، وهي قرية “العارض” باليمامة من نجد، وقد عاصر عبد الله بن معاوية، وتوفي في أواخر أيام عبد الملك ابن مروان. ولعل تسمية مذهبه بالإباضية أنه كان معروفاً ببعض المواقف الكلامية والسياسية، فشُهر وتميز بها، فنسب المذهب إليه، وكان أول ظهور لهذه التسمية، في أواخر القرن الثالث الهجري، إذ كانوا أهل مذهبه يسمّون أنفسهم، قبل ذلك التاريخ “جماعة المسلمين” أو” أهل الدعوة”.
وكان عبد الله بن إباض يقرُّ لدى خواصه، بأنه امتداد للخوارج الذين أيدوا التحكيم، إثر موقعة صفين بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، والذين سُمّو لذلك بـ “المُحَكِّمَة”, أما المتأخرون من فرقة الإباضية فهم ينكرون هذه النسبة.
نشأة الحركة الإباضية:
لعل الدكتور عوض خليفات هو أشهر من كتب عن الإباضية، وله عدد من المؤلفات(1) ففي رأيه أن نشأة الإباضية كانت في رحم فرقة الخوارج، أولى الفرق التي ظهرت في التاريخ الإسلامي. ويعود ظهور الخوارج كجماعة إلى عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتحديداً إلى أولئك الذين انشقّوا من جيشه عقب حادثة التحكيم سنة 37هـ/657م، وهي الحادثة الشهيرة التي أعقبت معركة صفين، التي دارت رحاها بين الإمام علي ومعاوية. فلقد رأى هؤلاء الخوارج أن التحكيم يعتبر تعدياً على أمر الله، ورددوا: “لا حكم إلاّ لله”، فما كان من الإمام علي إلاّ أن قاتلهم في “النهروان”، وانتصر عليهم. ويرى خليفات أن مشكلة الخلافة هي أول مسألة اشتد فيها الخلاف بين المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن بعض الصحابة ترددوا في قبول ترشيح أبي بكر لعمر بالخلافة من بعده، لأنهم يفضلون عليّاً، وأن عمر رفض أن يرشح أحداً بعينه للخلافة من بعده، لأنه خشي من عثمان مثلاً، “عصبيته وحبه لأهله وقومه، وحملهم على رقاب الناس”(2).
ويزعم الخوارج أن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حاد عن الطريق القويم في الفترة الأخيرة من خلافته، لذا وجبت منه البراءة، وبالتالي أحل سفك دمه. ويعتبرون أن الغوغاء الذين ثاروا على عثمان كانوا على حق، ويعتبرونهم الرواد الأوائل لفرقتهم، ويدّعون أن المهاجرين والأنصار في المدينة حرّضوا المتمردين على عثمان، ومنهم علي. ويقولون: إن المسلمين تولوا علي بن أبي طالب، وساندوه، حتى قبوله التحكيم مع معاوية، لكنهم يرون أنه أخطأ فيما عمل، في تحكيم أناس من البشر في أمر من أمور الله، وأنه لما خلع نفسه من منصبه الشرعي الذي بايعه عليه المسلمون، وجبت البراءة منه ومحاربته، وخاصة بعد رفضه إعلان التوبة، والانضمام للمُحَكّمة الذين انتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي إماماً لهم. ويرون أن عليّاً قد ندم لمحاربته أهل النهروان، وأنه اعترف أنهم ليسوا مشركين ولا منافقين. ويقولون إن هذا دليل على صدق نواياهم وصلاح عقيدتهم.
لكن جماعة من هؤلاء الخوارج وصفوا بالاعتدال، انشقوا عن مجموعة الخارجين بعد معركة النهروان، واتخذوا مدينة البصرة مقرا لهم، وآثروا السلم، وعدم اللجوء للسيف في فرض آرائهم. وأطلق المؤرخون عليهم مصطلح “القعدة”(3)، وقد تزعم هؤلاء أبو بلال مرداس بن أدية التميمي. وتعتبر هذه الجماعة البذرة التي أنتجت فيما بعد فرقة الإباضية. أما زعيم هذه الجماعة أبو بلال، فكان قد شهد معركة صفين مع الإمام علي، واشترك في معركة النهروان ضده، لكنه آثر فيما بعد أن ينشر أفكاره بالحوار والمناقشة، مما جعله يكسب الكثير من الأتباع في البصرة، بل وجعل بعض الفرق كالشيعة والمعتزلة يعتبرونه أحد أتباعهم.
تحول الإباضية من العلنية إلى السرية:
أنكر الخوارج المتطرفون قعود أقرانهم (أتباع أبي بلال)عن الثورة والجهاد، أما أهل السنة فكانوا يسمونهم ” الحرورية”. وقد اتبع والي العراق آنذاك زياد بن أبيه سياسة اللين مع هذا القسم من الخوارج، لأنه كان يرى ضرورة التفرغ للخوارج المتطرفين، لكن بعد وفاة زياد، اتبع ابنه عبيد الله بن زياد سياسة مغايرة، إذ عمد إلى القسوة مع جميع الخوارج، مما اضطر القعدة هؤلاء إلى الدعوة والتحرك سرّاً. ومالوا إلى العنف، إذ أصبح الاغتيال وسيلة مهمة لدى القعدة، والإباضية فيما بعد، للتخلص من كل شخص يحاول إيذاءهم، وقد تمكنوا من اغتيال عباد بن علقمة المازني، قائد الجيش الأموي الذي أباد بلال بن مرداس زعيمهم وأصحابه. وفي سبيل الوقوف ضد الأمويين، انضم بعضهم إلى عبد الله بن الزبير، الذي ثار في الحجاز ضد توريث الحكم عند الأمويين(4).
من أين جاءت التسمية؟:
تنسب الإباضية إلى عبد الله بن إباض(5)، رغم أن الإباضيين يشيرون إلى انتسابهم إلى شخص آخر، هو جابر بن زيد الأزدي. ولا تذكر المصادر التاريخية إلاّ الشيء اليسير عن حياة ابن إباض، فتاريخ مولده ووفاته غير معروفين، والمصادر الإباضية تجعله من رجال الطبقة الثانية من التابعين، أي الذين ماتوا قبل عام 100/718م. ولعل “أول اشتراك لابن إباض في الحياة العامة”، كان اشتراكه إلى جانب ابن الزبير ضد الجيش الأموي في الحجاز، بقيادة الحصين بن نمير السكوني، الذي خلف القائد الأموي مسلم بن عقبة سنة 63/682م، وكان ابن إباض قد ذهب إلى مكة مع بعض قادة الخوارج، مثل نجدة بن عامر الحنفي، ونافع بن الأزرق وغيرهم، مدفوعين برغبتهم وحماسهم في الدفاع عن البيت الحرام. لكن الخلاف اندلع بين ابن الزبير وهؤلاء، مما جعلهم يتركون مكة، وقد عاد بعضهم، ومنهم ابن إباض، إلى البصرة سنة 64/683.
وبرز ابن إباض في تلك الفترة عندما اختاره القعدة مجادلاً عنهم، ومتحدثاً باسمهم ضد مناوئيهم، بعد عودتهم من الحجاز إلى البصرة، وبخاصة ضد متطرفي الخوارج، وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وأتباعه. لكن المصادر الإباضية تنسب إلى عبد الله بن إباض دوراً ثانوياً، بالمقارنة مع جابر بن زيد الذي تعده هذه المصادر إمام الإباضية، في حين يعتبرون ابن إباض أحد زعمائهم الصالحين.
ويرى أحد المؤرخين الإباضيين المعاصرين أن الأمويين أطلقوا اسم الإباضيين عليهم، لأنهم لا يريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر بن زيد، حتى ” لا يجذبوا إليهم الأنظار، ولا يبدون في هالة جابر المشرقة”.
أبرز شخصياتهم في التاريخ:
- جابر بن زيد (ت 93/711(: أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي الجوفي البصري، من قبيلة أزد عمان، ولد في مدينة “الفرق” بالقرب من نزوى، يُعد من أوائل المشتغلين بتدوين الحديث، آخذ العلم عن عبد الله بن عباس، وعائشة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة، وبلغ من العلم مبلغاً يشار إليه بالبنان، ورحل في طلب العلم مراراً. لكن العلماء بذهبون إلى أن جابراً قد تبرأ من هؤلاء، وقد رفض طلباً للحجاج بتعيينه قاضياً، متذرعاً بعدم قدرته على تحمل أعباء هذا المنصب(6).
- أبو عبيدة مسلمة بن أبي كريمة: والمشهور بلقب “القفاف”، أدرك بعض الصحابة مثل أبي هريرة وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري. وأخذ علمه عن جابر بن زيد، وغيره من أئمة الإباضية في مرحلة الكتمان، وهو الذي خلف جابراً في رئاسة الدعوة، وقد عاش في البصرة، وأصبح مرجع الإباضية، ومؤسس المذهب الإباضي في كل من المغرب، وحضرموت. وقد تخرج على يديه مجموعة من دعاة المذهب، جاؤا إليه من مختلف الأقطار، وعُرفوا بين أتباع الإباضية بـ “حملة العلم”، وعن طريقهم انتشر المذهب الإباضي في مختلف البلدان الإسلامية، عُمِّر طويلاً، حيث توفي في عهد أبي جعفر المنصور سنة 158/774م .كان ابن أبي كريمة يتمتع بقدرات سياسية كبيرة، وقد تبوأ زعامة هذه الفرقة بعد موت الحجاج سنة 95/713م، وخروجه من السجن، واتفق ذلك مع بداية حكم سليمان بن عبد الملك سنة 96/714م، وفي تلك الفترة لم تكن العلاقة بين الخلافة والإباضية عدائية، فقد حظيت الإباضية لفترة من الزمن بحماية زعيم الأزد، يزيد بن المهلب، الذي عينه الخليفة والياً على العراق وخراسان، حيث كان العديد من الأزديين، والمهالبة قد انضموا إلى هذه الفرقة. وخلال فترة ترؤسه للفرقة، التقط الإباضيون أنفاسهم، ونظموا صفوفهم، واستفادوا في نشر دعوتهم من مواسم الحج، ورحلات التجار، الأمر الذي مهّد ـ فيما بعد ـ لقيام عدد من الإمارات الإباضية في عمان والمغرب العربي(7).
- الربيع بن حبيب الفراهيدي: عاش في منتصف القرن الثاني للهجرة، وينسب إليه الإباضيون مسنداً خاصاً، سُمِّي “مسند الربيع بن حبيب”، وهو مطبوع ومتداول اليوم.
- سلمة بن سعد: وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، قام بنشر المذهب الإباضي في أفريقيا في أوائل القرن الثاني.
- ابن مقطير الجناوني: ساهم في نشر الإباضية في ليبيا وتحديداً جبل نفوسة، الذي يعتبر معقلاً من معاقلهم اليوم.
- عبد الرحمن بن رستم: مؤسس الدولة الرستمية في بلاد المغرب.
- أبو ذر أبان بن وسيم: من أشهر علماء الإباضية في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة، وهو يعتبر واحداً من “أهل العلم”، الذين تخرجوا على يد ابن أبي كريمة. وكان عاملاً للإمام أفلح بن عبد الوهاب على منطقة طرابلس.
- أهم الدول والإمارات التي أنشأها الإباضية:
بسبب الملاحقة المستمرة من الأمويين لهم، اتجهوا إلى مناطق الأطراف، ليأمنوا بطش الحكام والولاة، فنزح بعضهم إلى ما وراء جبال عمان، في ركن قصي من الجزيرة العربية. وانطلق آخرون منهم إلى الشمال الأفريقي والأندلس، فأقاموا دولة في ليبيا سنة 140/757، استمرت ثلاثة أشهر، انسحبوا بعدها إلى منطقة جبل نفوسة في أقصى الجنوب، وكذلك فعلوا في الجزائر، أقاموا دولة استمرت ثلاثين عاما، من 160/776-190/805م، ثم نزحوا إلى وادي ميزاب، واستقروا هناك ولا يزالون. أما في تونس فقد تمركزوا في جزيرة “جربة” حتى الآن ، وفي الأندلس اعتصموا بجزيرتي “ميورقة” و”مينورقة”، ثم غادروها إلى الشمال الإفريقي بعدما سقطت دولة المسلمين. ومن الإباضية جماعة استقرت في واحة سيوه بصحراء مصر. لكن أهم دولهم التي أقاموها، كانت:
أـ دولة الإمامة الإباضية في حضرموت واليمن:
استطاع أحد زعمائهم وهو عبد الله بن يحيى، المشهور بطالب الحق، الاستيلاء على حضرموت سنة 129/746م، في السنوات الأخيرة لحكم بني أمية، بمساعدة إباضية البصرة، ثم استولى على صنعاء، وامتد نفوذهم إلى بعض مناطق الحجاز، بعد أن حقق عدة انتصارات على الجيوش الأموية، تبعتها هزائم وانكسارات. لكن نفوذ الإباضية وانتشار في حضرموت استمر حتى استيلاء الصليحي عليها سنة 455/1063م(8).
ب ـ دولة الإمامة الإباضية في عُمان:
لعب انضمام عدد من أبناء قبيلة الأزد ـ أكبر قبائل عُمان ـ إلى الإباضية، ورغبة العمانيين المستمرة في الاستقلال عن السلطة المركزية، المتمثلة بالدولة الأموية ثم العباسية، إضافة إلى طبيعة عمان الجغرافية، وموقعها الاستراتيجي، حيث ساعدها ذلك على تنمية مواردها الاقتصادية، وبالتالي الوقوف ضد أي خطر، دون خوف من حصار اقتصادي محتمل، كما كان يحدث في الحجاز مثلاً. لعبت كل هذه العوامل دوراً رئيساً في تأسيس أكبر دولة للإباضيبن في عُمان سنة 132/749، والتي بقيت تصارع البقاء إلى أن استوت على سوقها عام 177/793. ومنذ هذا التاريخ إلى اليوم استمر المذهب الإباضي سائدا في عُمان(9).
جـ ـ دولة الإمامة الرستمية في المغرب الأوسط:
استفاد الإباضية من بعد بلاد المغرب العربي عن مقر الدولتين الأموية والعباسية، فأسسوا إمارة مستقلة، لكن العباسيون لم يرضوا عن ذلك، فأرسلوا الجيوش للقضاء عليها، وإعادة المغرب إلى جسم الدولة، وقد حقق العباسيون انتصاراً ساحقاً على الإمامة الإباضية هناك، سنة 144/761م .
ومن أهم الدول التي أنشأها الإباضيون في المغرب الأوسط سنة 162/778م، الدولة الرستمية، المنسوبة إلى عبد الرحمن بن رستم، وعاصمتها تاهرت. وقد حكمت الشمال الأفريقي حكمًا متصلاً مستقلاً زهاء مائة وثلاثين سنة. وقد شكلت هذه الدولة ملاذاً آمناً للإباضيين، الذين اضطهدهم العباسيون في أماكن أخرى، واستمرت حتى سنة 297/909م، حيث قضى عليها العبيديون الفاطميون. ومن أئمتها الذين تداولوا الحكم في الشمال الأفريقي أيام الدولة العباسية: عبد الرحمن، عبد الوهاب، أفلح، أبو بكر، أبو اليقظان، أبو حاتم.
ومن علمائها: ابن مقطير الجناوني: تلقى علومه في البصرة وعاد إلى موطنه في جبل نفوسة بليبيا ليسهم في نشر المذهب الإباضي. وعبد الجبار بن قيس المرادي، الذي كان قاضيًا أيام إمامهم الحارث بن تليد. والسمح أبو طالب، من علمائهم في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، كان وزيرًا للإمام عبد الوهاب بن رستم، ثم عاملاً لهم على جبل نفوسة ونواحيه بليبيا، والذي كان معقلاً لهم ينشرون منه المذهب الإباضي، ويديرون شؤون الفرقة الإباضية(10).
ولا يزال لهم وجود إلى وقتنا الحاضر في كل حضرموت، واليمن، وليبيا، وتونس، والجزائر، وواحات الصحراء الغربية، بالإضافة إلى عمان.
الإباضية والمذهب السلفي في السعودية:
حدث أن توجه بعض الشباب السعودي إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز، رئيس دائرة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وسألوه عن جواز الصلاة وراء إمام إباضي، فأفتى بأن الإباضية فرقة ضالة، لا تجوز الصلاة وراء أتباعها. وكان لهذه الفتوى وقع الصاعقة على تجمعات الإباضية المعاصرة، التي تنتشر في بعض دول شمال إفريقيا وسلطنة عمان. إذ نكأت الفتوى جراحا قديمة، وأثارت لغطا عفا عليه الزمن، وفتحت ملفا انغلق. وحسب الروايات التي تتردد في كواليس المؤتمر، فقد سافر مفتي السلطنة الشيخ أحمد الخليلي إلى السعودية لتدارك الموقف، في مهمة يبدو أنها لم تنجح. وبالمقابل فإن مبعوثا سعوديا رسميا زار السلطنة في محاولة لتطويق المشكلة، وللإيحاء بأن الخلاف المذهبي، إن تفجر بين رموزه، فينبغي ألا تكون له تأثيرات سلبية على العلاقات السياسية بين البلدين، وإن رأي بعض أهل المذاهب ليس هو بالضرورة ولا هو دائما رأي السلطة في المملكة.
وإزاء ذلك لم تجد عمان مفراً من الدعوة إلى عقد مؤتمر للفقه الإسلامي، يكون الفقه الإباضي أحد محاوره الأساسية، بحيث تتم مناقشة الموضوع ، وتعلن البراءة من جانب فقهاء الأمة، بصورة طبيعية وغير مباشرة، فيطفأ الحريق في هدوء، ويرد الاعتبار، وتهدأ النفوس الغاضبة والقلوب الجريحة، بين عامة الإباضية وخاصتهم. وكان أكثر الذين دعوا للمشاركة في المؤتمر ليسوا علم بتلك الخلفية، ولكن قائمة المدعوين كانت توحي بأن هناك نوعا من “الاستنفار ” الفقهي ، لمواجهة أمر طارئ له أهميته، فقد كان في المقدمة كل رموز الأزهر، شيخه، ووكيله، ورئيس جامعته، ومفتي مصر، واثنان من وزراء الأوقاف السابقين، غير نفر من أساتذة الشريعة والأصول. أما من السعودية فقد شارك رئيس مجمع الفقه الإسلامي، ومن الأردن وزير الأوقاف والشباب الدكتور عوض خليفات، صاحب المؤلفات عن الإباضية، إضافة إلى المفتي، وعميد كلية الشريعة، وشيخ فقهاء الشام المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا. كان من بين المشاركين أيضا مفتي سورية وممثلو كليات الشريعة في مختلف الجامعات الخليجية، وعدد من فقهاء الإباضية في تونس والجزائر، غير فقهاء المذهب في عمان بطبيعة الحال. ورغم أن البحوث المتعلقة مباشرة بالمذهب الإباضي لم تتجاوز خمسة من بين 14 بحثا عرضت على المؤتمر، إلا أن محاور البحث الأخرى كانت متصلة بالموضوع بصورة غير مباشرة.
الإباضية من وجهة نظر باحث عماني:
يرى الباحث العُماني الشيخ صالح بن أحمد البوسعيدي في بحث ألقاه في ندوة بجامعة شيفيلد بأدنبرة- بريطانيا – أن الإباضية ليست فرقة عقدية، أو حركة سياسية، أو اتجاه فكري، أو مدرسة أصولية، أو مدرسة فقهية، ولكنها مجموع ذلك كله، فالمذهب الإباضي حركة سياسية، وفرقة عقدية، واتجاه فكري، ومدرسة أصولية فقهية في الوقت ذاته، لا يطغى جانب من تلك الجوانب على آخر، بل كلها وبمجموعها تشكل منظومة واحدة نطلق عليها اسم “المذهب الإباضي”، فعلى عكس الكثير من المذاهب الإسلامية الأخرى، التي يطغى على بعضها الجانب الفقهي، وعلى بعضها الجانب العقدي، وعلى بعضها الجانب السياسي، نجد أن المذهب الإباضي قد استطاع أن يوفق بين تلك الجوانب، وأن يستوعبها كلها، وأن يكون له موقفه المتميز فيها جميعا، وبصمته الواضحة عليها كلها.
فإذا أتينا إلى الجانب السياسي سنجد أن المذهب الإباضي حركة سياسية قائمة بذاتها لها أطروحاتها، وفي الجانب العقدي سنجد أيضاً أن المذهب الإباضي له أحكامه العقدية القائمة على ركائز راسخة وأدلة قوية. أما الجانب الفقهي فهو ثروة من الإسهام الفقهي في كل أبواب الفقه من العبادات، والمعاملات، وفقه الجنايات، والأحوال الشخصية(11).
رأي الإباضية في مخالفيهم:
يطلق الإباضية على المخالفين لهم من المسلمين اسم: المخالفين، ويقابلها الموافقون، أو القوم، ولا يُخرج الإباضية مخالفيهم من الإسلام، ولا يسقطون شيئاً من حقوقهم كحرمة دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فلا يستحلون قتالهم، أو غنيمة أموالهم، أو سبي ذراريهم، ولا يحرمون تزويجهم، والتزوج منهم، ويبيحون إعطاء الزكاة لهم، ولهم حقوقهم كاملة في الميراث، والقصاص، والديات، ولهم حق الصلاة عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين(12)، ولم يحدث قط أن حكم عالم من علماء الإباضية على أحد من المخالفين بالشرك والخروج من الإسلام، إلا ما حدث من الإمام هارون بن اليمان من علماء إباضية حضرموت في القرن الثالث الهجري، فإنه ألف رسالة حكم فيها على المشبِّهة والمجسِّمة بالشرك، وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يوصف بصفات البشر من لزوم الأعضاء له، فإذا جاء من يصف الله تعالى، بأن له أعضاء حسية كاليد أو الرجل أو العين أو الوجه، فهذا يعني أنه يعبد إلهاً غير الذي نعبده، إذ إن الله عز وجل الذي نعبده، لا يتصف بتلك الصفات، وما دام الأمر كذلك فهو إذن ليس بمسلم.
غير أن الإمام محبوب بن الرحيل وكان إمام الإباضية في ذلك الوقت، رد على الإمام هارون بن اليمان برسالة أرسلها إلى حضرموت، وأخرى إلى عُمان، فند فيهما ما ذهب إليه الإمام هارون، وقال ما ملخصه أن المجسمة والمشبهة يعبدون الله تعالى الذي نعبده، ولكنهم يصفونه بصفات لا تليق به من الصورة والأعضاء معتمدين على فهمهم الظاهر لآيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يخرجهم من جملة المسلمين، بل هم باقون على وصف الإسلام. ومنذ ذلك الحين لم يتغير موقف الإباضية من مخالفيهم وأن ما يعتقدونه لا يخرجهم من الإسلام، بل هم مسلمون باقون على إسلامهم، ولهم جميع حقوق المسلمين ما دام لهم دليل يستندون إليه.
تمرد بعض أتباع الإباضية عليها:
انشق عن الإباضية عدد من الفرق وهي: الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام. والحارثية: أصحاب الحارث الإباضي. واليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة. وقد تبرّأ سائر الإباضية من أفكار هذه الفرق الثلاثة، وكفروهم، لشططهم وابتعادهم عن الخط الإباضي الأصلي، الذي ما يزال إلى يومنا هذا، لكن هذه الفرق قد اندثرت. وتبع اليوم جميع الإباضيين هذا الخط في كل أماكن تجمعاتهم، وهم جميعاً يحاولون بما أوتوا من قوة، إثبات براءتهم من تهم الغلو والتكفير والضلال، التي يلاحقهم بها أهل السنة منذ أكثر من ألف عام.
التنصل من المذهب الإباضي في عمان:
يكره الإباضيون خاصة والعمانيون خاصة أن يسمون بالخوارج(13). ومنذ اثني عشر عاما، في سنة 1976، صدر في مصر كتاب لأحد فقهاء الإباضية، الشيخ علي يحيى معمر، بعنوان: “الإباضية بين الفرق الإسلامية”، جمع كل مقولات السلف والخلف، وكافة الاتهامات التي وجهت إلى المذهب ودعاته، وفنــدها جميعـا، وهو يتولى الرد عليها. وقد هدم مقولات الأشعري مثبتا أن فرق الإباضية التي أشار إليها وأسماء الفقهاء الذين ذكرهم الأشعري، لا وجود لهم على الإطلاق، لا في تاريخ الإباضية أو في مصنفاتهم، وانتهى إلى أن الأشعري ” لا يعرف عن الإباضية شيئاً، وإن أكثر ما كتبه لا علاقة لهم به، ولا علاقة له بهم”. وذهب إلى أن الإباضية ليسوا من الخوارج، غلاتهم أو معتدليهم، أما رفضهم أن يظل الحكم حكرا على قريش، والتحكيم بين على ومعاوية، فقد كان خطأ ما كان له أن يقع، لكنه لا يصنفهم ضمن الخوارج. وقد صرح الشيخ معمر في كتابه هذا بأن الإباضية لا يريدون أن ينتسبوا إلى الخوارج، ولا يحسبون أنفسهم كذلك، ولا يعتزون بهم، لسبب بسيط هو: أنهم لا يحكمون على غيرهم من المسلمين بأحكام المشركين، ولا ينفذون فيهم تلك الأحكام(14).
وقد استشهد الشيخ معمر بما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه “إسلام بلا مذاهب”، الذي قال فيه: إن الإباضية رُموا بتهمة الخوارج، لأنهم رفضوا القرشية، أي التزام كون الإمام من القرشيين. وأضاف إن التقاءهم مع الخوارج في هذا الموقف، إضافة إلى تخطئتهم للتحكيم بين علي ومعاوية، هو الذي فتح عليهم باب الاتهامات، التي لاحقتهم منذ العصر الأموي وحتى العصر الحديث. لقد اتهمهم الأمويون بأنهم خوارج بسبب مواقفهم من الإمامة القرشية، ولاحقوهم بتلك التهمة، ثم جاء أعوانها فاخترعوا للإباضية عقائد وشنائع، بثوها عنهم، فانتشرت بين الناس، وقامت حائلا دون أن يفهم بعضهم البعض، واختفى في زحمة النقاش السبب الرئيسي للموضوع، وطغت تلك وراجت حتى تناولتها الأقلام بالإثبات والترسيخ(15). وفي مقابل كل ذلك أصر الشيخ معمر على أن الإباضية من أهل السنة وليسوا من الخوارج، وإلى هذا يذهب أكثر فقهاء الإباضية المحدثين.
الإباضية فرقة من فرق الشيعة!!:
إلا أنه من الطريف هنا أن تجد أحد الباحثين المعاصرين في السعودية، يضع الإباضية في تصنيف ثالث، بعيدا عن السنة والخوارج، فيعتبرهم من فرق الشيعة، رغم إشارته إلى أنهم ينتسبون إلى عبدالله بن إباض، الذي وصفه بأنه من زعماء الخوارج، أما الباحث فهو الدكتور السيد المطري، الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز، الذي وضع كتاباً بعنوان “دراسات في سكان العالم الإسلامي”، والطريف أن الكتاب نشر بدعم من لجنة البحث العلمي بالجامعة. وقد أحالنا الباحث في صدد هذه المعلومة إلى كتاب “البلدان الإسلامية”، الذي صدر في السعودية أيضاً سنة 1979م، لثلاثة من كبار الأساتذة المهتمين بالدراسات السكانية في العالم الإسلامي.
المذهب الإباضي في نظر المعاصرين من أهل السنة:
تذهب غالبية الباحثين المعاصرين إلى اعتبار الإباضيين من معتدلي الخوارج. ومن هؤلاء الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن المذاهب الإسلامية، والدكتور عوض خليفات، في مؤلفه عن نشأة الحركة الإباضية. وتعد دار الكتب المصرية في القاهرة مصدرا هاما لمخطوطاتهم، وكان فقيههم أبو إسحاق طفيش أحد موظفي الدار، فصرف كل جهده لتحقيق تلك المخطوطات ودراستها.
الرأي التاريخي الراجح في الإباضية:
وخلاصة الأمر أن هذا التفاوت في تصنيف الإباضية يعكس جانبا من الالتباس الذي أحاط بالمذهب الإباضي وأهله طوال القرون، التي انقضت من التاريخ الإسلامي، وكان سببا في حيرة بعض الباحثين وتخبطهم. فهم خرجوا فعلا على الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، لكنهم يبرأون من الخوارج. لكن التقاءهم مع الخوارج في الموقف السياسي، لا يؤثر على التقائهم مع أهل السنة في الموقف الفكري أو الفقهي، فهم ينسبون إلى عبدالله بن إباض الخارجي، بينما المؤسس الحقيقي لمذهبهم هو الإمام جابر بن زيد، المعدود من التابعين المرموقين، العارفين بكتاب الله، وباعه لا ينكر في رواية الحديث، وفي الفتوى التي كان يباشرها مع الحسن البصري في البصرة وغيرها. وقد استفتي عبدالله بن عباس مرة في أمر فقال: عجباً لأهل العراق، كيف يحتاجون إلينا، وعندهم جابر بن زيد، لو قصدوا نحوه، لوسعهم علمه. وعندما برز عبدالله بن إباض متحدثاً بأسمهم ومناظرا لمخالفيهم، فإنهم أرادوا به ستر قيادتهم الفكرية الحقيقية المتمثلة في الإمام جابر بن زيد.
وقد أدى بهم احتماؤهم بالمناطق النائية، إلى أن تصبح تجمعات الإباضية بعيدة عن الأنظار، وغائبة عن المعترك السياسي والفكري، الذي ارتبط بمقر الخلافة في المشرق العربي. مما ساهم في التجهيل بهم، فضلا عن الترويج لمختلف الاتهامات التي ألصقت بهم، وفي مقدمتها نسبتهم إلى الخوارج، وإضافتهم إلى من ضل من فرق المسلمين. ورغم أن عدد الإباضية الآن قد لا يتجاوز مليونين من الأشخاص.
ومن هنا ظهر التشويه والابتسار في أخبارهم. وقد شكى أساتذة التاريخ الذين تناولوا الحركة الإباضية من ندرة المعلومات عنهم، فموسوعات التاريخ الإسلامي لا تمر على عمان وأهلها الإباضية إلا مروراً سريعاً وخاطفاً. ودورهم في الأندلس غير مذكور على الإطلاق، وعلماء الإباضية لا يشار إليهم في كتب الطبقات، وأشهر تلك الكتب – طبقات ابن سعد- لم يذكر سوى الإمام جابر بن زيد في عرض مقتض. وقد انتبه بعض الباحثين العمانيين إلى هذا الأمر.
وحسناً فعل مؤتمر مسقط، فقد سلط الضوء على الحركة الإباضية تاريخها ورجالها وعقائدها وإن كان بشكل غير مباشر، ولم يحْتَفِ بأمر تصنيفهم، أو ما نسب إليهم من اتهامات في الموقف أو في العقيدة، فتحديد طبيعة الفقه ومصادره وركائزه كفيل بحسم كل ما ينبني بعد ذلك من استنتاجات أو تأويلات.
أهم أفكار ومعتقدات الإباضية :
- تعطيل الصفات الإلهية : انقسمت الإباضية في نفي الصفات الإلهية إلى فريقين، الأول: يرى تنزيه الخالق تنزيهًا مطلقًا عن الصفات، إذ يرفض مبدأ التشبيه، شأنه في ذلك شأن بقية فرق الخوارج، فالتشبيه في رأي هذا الفريق يؤدي إلى جعل الصفات الآلية أمراً معروفاً، ويذهب إلى تأويلها تأويلاً مجازياً بما يفيد المعنى؛ وهو في نفيه لهذه الصفات يلتقي إلى حد بعيد مع المعتزلة في تأويلها، ولكنه يدعي أنه ينطلق في ذلك من منطلق عقدي؛ فمثلاً يقول هذا الفريق: إن المقصود بـ”يد الله” القوة أو النعمة، لا يداً على الحقيقة. أما الفريق الثاني فيرجع الصفات إلى الذات الإلهية، فقال: إن الله عالم بذاته، وقادر بذاته، وسميع بذاته…إلخ. أما أهل السنة، فيصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
- إنكار رؤية المؤمنين لله في الآخرة: ينكر الإباضية رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة، لإن حصول الرؤية لديهم يصعب على العقل ويستبعده؛ واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى” “لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار”، فهم يؤولون الآية تأويلاً خاطئاً على طريقة المعتزلة، والواقع أن كل استدلالاتهم التي شابهوا فيها المعتزلة، إما استدلالات غير صحيحة الثبوت، أو صحيحة، ولكن أوَّلوها على حسب هواهم في نفي الرؤية. فإن الآية الأولى ليس فيها نفي الرؤية: وإنما نفي الإحاطة والشمول، فالله يرى ولكن من غير إحاطة به عز وجل. وهناك أدلة في القرآن الكريم والسنة على رؤية الله يوم الآخرة، إذ يقول الله تعالى: “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم ؟، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟. قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم، من النظر إلى ربهم عز وجل” (رواه مسلم).
- عذاب القبر: يختلف الإباضية حول عذاب القبر، فمنهم من ينفي وجود هذا العذاب القبر. كالنفوسي، ومنهم من يؤمن بوجوده، كجابر بن زيد.
- خلق القرآن الكريم: على الرغم من أن الخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن، إلا أن الإباضية، يختلفون فيما بينهم في هذا الأمر، فإباضية المغرب يذهبون إلى أن القرآن مخلوق, لكن إباضية المشرق يقولون بأن القرآن قديم، وغير مخلوق.وكلا الأمرين ينفيهما زعيم أهل السنة والجماعة ابن تيمية، إذ يقول: “وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق، فلم يقل أحد منهم أنه قديم, لم يقل بواحد من القولين أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم, بل إن الآثار متواترة عنهم أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله”.
- مرتكب الكبيرة : قالوا بأن مرتكب الكبيرة كافر “كفر نعمة ونفاق”؛ وهو المسلم الذي ضيّع الفرائض الدينية، أو ارتكب الكبائر، أو جمع بينها. ولا يمكن في حال إصراره عليها أن يدخل الجنة، إذا لم يتب منها، إذ هو مخلّد في النار، لأن الله في اعتقادهم لا يغفر الكبائر لمرتكبيها، إلا إذا تابوا منها قبل الموت, فإن مات المسلم على كبيرته، فإنه يخلد في النار. بينما يطلق أهل السنة والجماعة على مرتكب الكبيرة كلمة العاصي أو الفاسق، ومن مات منهم على كبيرة، فهو في مشيئة الله، إن شاء غفر له بكرمه, وإن شاء عذبه بعدله, ولا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .والناس في نظرهم ثلاثة أصناف: مؤمنون أوفياء بإيمانهم، ومشركون واضحون في شركهم. وقوم أعلنوا كلمة التوحيد، وأقروا بالإسلام، لكنهم لم يلتزموا به سلوكاً وعبادة، فهم ليسوا مشركين، لأنهم يقرون بالتوحيد، ولكنهم ليسوا مؤمنين، لأنهم لا يلتزمون بما يقتضيه الإيمان، فهم إذن مع المسلمين في أحكام الدنيا لإقرارهم بالتوحيد، وهم مع المشركين في أحكام الآخرة، لعدم وفائهم بإيمانهم، ومخالفتهم ما يستلزمه التوحيد من عمل أو ترك.
- أهل القبلة (المسلمون): يعتقد الإباضية أن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، لكن التزاوج منهم جائز، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والخيل وكل ما فيه من قوة الحرب حلال، وما سواه حرام. ومصطلح “أهل القبلة” مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك، حُرِّمَت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين” (رواه البخاري).
- الإمامة بالوصية: قال الإباضية: على الرغم من إن الإمامة فرض بالكتاب، والسنة، والإجماع، والاستدلال، وموقفهم هذا يتفق مع مذهب أهل السنة، فإنهم يرون وجوب نصب الحاكم، حتى وإن كانوا جماعة قليلة، فلو كانوا ثلاثة في سفر لوجب تأمير أحدهم، كما دلت على ذلك النصوص الثابتة، وأن من قال بالاستغناء عن نصب الحاكم، فقد كابر عقله، وكذب نفسه، ورد عليه الواقع من حال البشر، وصار ما يقوله من نسيج الخيال، وأدلته على الاستغناء مردودة واهية. وقد جوَّز الإباضية كأهل السنة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا تمت للمفضول؛ خلافاً لسائر الخوارج.إلا أنهم يرون أن الإمامة بالوصية باطلة، ولا يكون اختيار الإمام إلا عن طريق البيعة، ويجوز تعدد الأئمة في أكثر من مكان. والذي عليه أهل السنة جواز الإمامة بالوصية، لورود هذا عن أبي بكر رضي الله عنه حينما أوصى بالخلافة لعمر رضي الله عنه، ولم يعترض أحد من كبار الصحابة. ويتهجم بعض الإباضية على أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص.ويتبين الدارس لجذور الفرقة الإباضية الفكرية والعقائدية، أنها تعتمد على القرآن، والسنة، والرأي، ومن ثم الإجماع، والقياس، والاستدلال. وأنها تأثرت بمذهب أهل الظاهر؛ إذ إنها تقف عند بعض النصوص الدينية موقفًا حرفيًا، وتفسّرها تفسيرًا ظاهريًا. كما تأثرت كذلك بالمعتزلة في قولها بخلق القرآن. وهم لا يوجبون الخروج على الإمام الجائر، ولا يمنعونه، وإنما يجيزونه، فإذا كانت الظروف مواتية، والمضار فيه قليلة، فإن هذا الجواز يميل إلى الوجوب، وإذا كانت الظروف غير مواتية، والمضار المتوقعة كثيرة، والنتائج غير مؤكدة، فإن هذا الجواز يميل إلى المنع، ومع كل هذا فإن الخروج عليه لا يُمنع في أي حال. ويرون أن الخلافة ينبغي ألا تنحصر في قريش؛ إذ إن كل مسلم صالح لها، إذا ما توفرت فيه الشروط.
- التقية: تعتبر الإباضية التقية جائزة، خلافاً لأكثر الخوارج، وقد أورد الربيع بن حبيب في مسنده أحاديث في الحث عليها. قال جابر: سئل ابن عباس عن التقية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان، وما لم يستطيعوا، وما أكرهوا عليه”. قال: قال ابن مسعود: “ما من كلمة تدفع عني ضرب سوطين إلا تكلمت بها، وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد”، أي وهو يجد خلاصاً في الأخذ بالتقية.
ومن معتقداتهم:
- أن الجدة للأب أولى بالحضانة من الجدة للأم خلافًا لأكثر المذاهب. وأن الجد يمنع الإخوة من الميراث بينما ترى المذاهب الأخرى أن يقتسموا معه.
- لا يجوز لديهم أن يدعو شخص لآخر بغير الجنة وما يتعلق بها، إلا إذا كان مسلمًا موفيًا بدينه مستحقًا الولاية بسبب طاعته، أما الدعاء بخير الدنيا وبما يحول الإنسان من أهل الدنيا إلى أهل الآخرة فهو جائز لكل أحد من المسلمين تقاة وعصاة.
- لديهم نظام اسمه (حلقة العزابة) وهي هيئة محدودة العدد، تمثل خيرة أهل البلد علمًا وصلاحًا، تقوم بالإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية، كما تمثل مجلس الشورى في زمن الظهور والدفاع، أما في زمن السر والكتمان، فإنها تقوم بعمل الإمام وتمثله في مهامه.
- لديهم منظمة اسمها (إيروان) تمثل المجلس الاستشاري المساعد للعزابة، وهي القوة الثانية في البلد بعدها.
- يشكلون من بينهم لجاناً تقوم على جمع الزكاة وتوزيعها على الفقراء، كما تمنع منعًا باتًا طلب الزكاة أو الاستجداء وما إلى ذلك من صور انتظار العطاء.
المراجع:
- علي بن يحيى بن معمر، الإباضية بين الفرق الإسلامية، القاهرة، 1976.
- صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل.
- عوض خليفات، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية في أفريقية في مرحلة الكتمان.
- عوض خليفات، نظام الولاية والبراءة والوقوف عند الإباضية.
- عوض خليفات، نشأة الحركة الإباضية، مسقط: وزارة التراث والثقافة، ط1، 2002.
- أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي، “الجزء الثاني”، القاهرة: مكتبة نهضة مصر، ط 10، 1999.
- مسعود ضاهر، “الجانب الفكري في المذهب الإباضي”، مجلة المصدر:المستقبل البيروتية، العدد(2695) ، الأحد 5 آب 2007، ص: 17.
(1) انظر مسرد المراجع في نهاية هذه الورقة البحثية.
(2) خليفات، نشأة الحركة الإباضية، ص: 64 ـ 65.
(3) المصدر السابق، ص: 65.
(4) المصدر نفسه، ص: 71.
(5) أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي، 2: 277. وخليفات، المصدر نفسه، ص: 76.
(6) خليفات، مصدر سابق، ص: 86ـ 102.
(7) خليفات، مصدر سابق، ص: 103ـ 115.
(8) خليفات، مصدر سابق، ص: 116ـ 126..
(9) المصدر السابق، ص: 127ـ132.
(10) خليفات، مصدر سابق، ص: 133ـ168.
(11) مسعود ضاهر، “الجانب الفكري في المذهب الاباضي”، مجلة المصدر:المستقبل البيروتية، العدد(2695) ، الاحد 5 آب 2007، ص: 17
(12) أحمد شلبي، مصدر سابق، ص: 277.
(13) أحمد شلبي، مصدر سابق، ص: 277.
(14) معمر، الإباضية بين الفرق الإسلامية، ص: 417.
(15) المصدر نفسه، ص: 159.