في الفترة من (356/967 ـ 931/1524) انقسمت الدراسة في هذا الكتاب إلى مدخل وثمانية فصول:
درسنا في المدخل المحاولات الهاشمية الأولى لحكم الحجاز، ونوهنا بعدد من الثورات التي أشعلها زعماء الهاشميين في وجه العباسيين، بدأ من سنة 145/762، على يد محمد بن عبد الله المحض بن الحسن بن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، المعروف بالنفس الزكية، وانتهاء بثورة محمد بن سليمان، الذي خلع طاعة الخليفة الباسي المقتدر بالله سنة 301/912، ورانت بعد هذا التاريخ فترة من استبداد العباسيين، الذي منع قيام ثورة عارمة على حكمهم، ولكن ذلك كان إلى حين، حيث استطاع الشريف جعفر بن محمد حفيد محمد بن سليمان المذكور أن يقوم بثورة سنة 357/967، تمكنت من إقامة إمارة هاشمية، حكمها هو وأبناؤه وأحفاده طيلة ما يقرب من مائة عام.
أما الفصل الأول فقد تم تخصيصه لدراسة تاريخ أسرة الموسويين التي أسسها الشريف جعفر المذكور، والتي اختلف المؤرخون في تسميتها، كما اختلفوا في نسب مؤسسها القريب، وفي ترتيب أسماء أمرائها الذين حكموا مكة، على الرغم من أن جميع المؤرخين لا يشكون في انتماء هؤلاء جميعاً الأسرة إلى الحسن بن علي رضي الله عنه، وقد جعل ذلك من مهمتنا في تدوين تاريخ هذه الأسرة مهمة صعبة، تغلبنا عليها باعتمادنا على آراء على مؤرخي مكة أنفسهم‘ فهم الأقرب إلى الحدث بيئة ومكاناً وظروفاً، فقد قيل “أهل مكة أدرى بشعابها”.
وكان الفصل الثاني مكاناً ملائماً للحديث عن أسرة الهواشم التي تأسس حكمها سنة 457/1063، على يد الشريف محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم، في ظروف عاشت فيها مكة كانت أشبه بالاحتلال، في الفترة التي أعقبت وفاة آخر أمراء الأسرة الموسوية السابقة الشريف شكر بن أبي الفتوح سنة 453/1061، إذ عدا عليها ملك اليمن علي بن محمد الصليحي سنة 455/1063، مستغلاً ضعف العبد الذي حكم بعد وفاة سيده شكر، ولكن اتحاد الهاشميين في وجهه اضطره إلى مغادرة مكة بعد أن جعل فيها حاكماً منهم، هو مؤسس هذه الأسرة، وقد حكمت هذه الأسرة ما يقرب من قرن ونصف، ترسخت فيها أقدام الهاشميين، ولم يعد لأحد قدرة على إدعاء حكمها غيرهم.
أما الفصل الثالث فكان أطول الفصول وأكثرها صفحات، إذ استغرق حولي ثلث عدد صفحات هذه الدراسة، مخالفين بذلك الوزن النسبي لفصولها، والذي نصت عليه الأساليب المنهجية المعتبرة في الأبحاث الأكاديمية، ولكن ذلك كان أمرا فرضته طبيعة الأهداف التي وضعت هذه الدراسة لتحقيقها، فقد كان الهدف هو التأريخ للأسرة القتادية الهاشمية التي تنحدر منها الأسرة الهاشمية الحاكمة في المملكة الأردنية الهاشمية اليوم، وإذا كانت الأسرتان السابقتان قد انحصرت سيادتهما في مكة المكرمة ونواحيها، فإن حكم الأسرة القتادية قد طال جميع الحجاز، بدأ من الربع الأول للقرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وكانت هذه الأسرة صاحبة أطول تاريخ حكم في الديار الحجازية، إذ استمرت في حكم الحجاز من قبيل مطلع القرن السابع الهجري/القرن الربع عشر الميلادي، إلى حوالي منتصف القرن الرابع عشر الهجري/نهاية الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، وقد جعل هذا التاريخ المتطاول من مهمة استقصاء أوجه الحكم الهاشمي في ظل الأسرة القتادية للحجاز أمراً مستحيلاً في كتاب واحد، فكان عزمنا على تقسيم تاريخ هذه الأسرة إلى فترتين: العصر المملوكي والعصر العثماني، وتخصيص جزء مستقل لدراسة حكم الأسرة في كل منهما، فكان هذا الجزء مخصصاً لدراسة تاريخها في العصر الأول، راجين أن يعيننا الله على إتمام الجزء الثاني في دراسة حكمها في العصر الثاني، لنقدم تاريخاً وافياً لحكمها في الحجاز.
وإذا كنا قد درسنا فترات حكم جميع أمراء الأسرتين الأولى والثانية، فإننا في دراسة أمراء الأسرة الثالثة، لجأنا إلى اختيار عدد من أمرائها المشهورين، من ذوي الدلالة السياسية الإيجابية على حكمها، وذلك بسبب من كثرتهم كثرة تجعل من دراستهم جميعاً أمراً، يعمل على تضخيم الدراسة، واستيلاء القسم السياسي المتمثل في الفصول الأول والثاني والثالث على معظم صفحاتها.
ومنذ بداية الفصل الرابع، تبدأ الدراسة الحضارية للمجتمع المكي والحجازي اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأدبياً وعمرانياً. ففي الرابع استعرضنا الأوضاع الاقتصادية ومصادر دخل الإمارة، والنقود والمكاييل في المعروفة والمتداولة فيها يوم ذاك، وفي الخامس تحدثنا عن المجتمع المملوكي وتقسيماته الفئوية، حيث جعلناها ثمان فئات، ولم نر في دراستنا من تحدث بهذا التفصيل عنها، وقد جعلنا المولدين والعبيد والمماليك فئة واحدة لما بينها من تشابه في المكانة والوظائف، التي كانوا يؤدونها في ذلك المجتمع. كما تحدثنا عن أنواع الاحتفالات التي كان المجتمع المكي يهتم بها، ويقيمها على امتداد السنة الواحدة، وخصصنا قسماً من هذا الفصل للتنويه بالمرأة المكية والمكانة الاجتماعية التي وصلت إليها في هذا المجتمع، إذ وجدنا لها إسهاماً مميزاً في الحركة الثقافية والعلمية، فكان هناك المرأة المحدثة والفقيهة والمتصوفة والشاعرة.
وفي الفصل السادس تحدثنا عن الحياة الثقافية والحركة العلمية، وكان للحديث عن أنواع التعليم مكان هام في هذا الفصل، حيث جعلناها ثلاثة أنواع : التعليم في المدارس، والتعليم في الربط والزوايا والمساجد، والتعليم في المسجد الحرام والمقامات الملحقة بها، وكان للأسر التاريخية التي نشأت في مكة دور بارز في الحركة العلمية، وأن هذه الأسر ترسخت جذورها في التربة الثقافية للإمارة، فكانت وجهاً من وجوهها البارزة، وتبين لنا أن الثقافة الدينية والتاريخية كانتا الثقافة التي تعترف بها هذه الأسر، وتجعل أبناءها يقبلون عليها، قبل أن يحتل المتفوقون منهم المناصب الدينية والدنيوية، وأن كتابة التاريخ على شكل حوليات كانت من أبرز مظاهر الثقافة التاريخية.
وفي الفصل السابع حرصنا على تتبع الأنواع الشعرية التي كانت تتفاعل على الساحة الأدبية، وقد حرصنا على الرصد والجمع والتصنيف في هذه الأنواع أكثر من حرصنا على دراستها ونقدها وتحليل مسيرتها، وقد انطلق ذلك من شعورنا بأننا نضع دراسة تاريخية حضارية للأسر الهاشمية التي حكمت حتى نهاية العصر المملوكي تقريباً، مدركين أن هناك دراسات أدبية متكاملة ستكتب عن هذه الحركة في الديار الحجازية، أو ينبغي أن تكتب، لملء الفراغ الحاصل في المكتبة العربية عامة والأدبية خاصة، بسبب غياب مثل هذه الدراسات.
أما الفصل الثامن فلم يكن إلا تكملة للصورة الحضارية التي رغبنا في رسمها للإمارات الهاشمية في الديار الحجازية، لشعورنا أن هناك من أوفى الجانب المعماري حقه من البحث والدراسة، وأنه ما من مؤلف كتب عن الحرمين الشريفين إلا وأوفى الحديث عن عمارة الحرمين وإصلاح عمارتهما على امتداد التاريخ الإسلامي في تلك الديار.
وأشرنا في الخاتمة إلى عدد من النتائج، التي كان للدراسة شرف الوصول إليها، كان أهمها التواصل الهاشمي نسباً وتاريخاً في هذه الأسر، وأن هذا التواصل من شأنه أن يكبت ضغائن الحاقدين، وينفي مزاعم المغرضين، ودعونا إلى مزيد من الدراسات المعمقة في تاريخ هذه الأسر، وإسهاماتها الحضارية في الديار الحجازية.