وجاء البحث في مقدمة وسبعة أبواب وخاتمة، حيث تعرضت في الباب الأول للأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فبيَّنت أنها في الناحية السياسية تميل إلى الضعف، وانعدام الأحداث الجسام، إذا استثنينا غزو تيمور لبلاد الشام، وفي الناحية الاقتصادية، أوضحت مقدار السوء الذي وصلت إليه الأمور يوم ذاك، ودرست من الناحية الاجتماعية عدداً من القيم السلبية، التي نشأت في ذلك المجتمع، كالرشوة وأخلاق العصر، وأشرت إلى فئات المجتمع المملوكي، وركزت على إظهار آثار هذه الفئوية، التي أسهمت في تشكيل بنية المجتمع، كما عرضت في هذا الباب صورة عامة للأحوال الثقافية والفكرية، فأشرت إلى طرائق التعليم وأساليبه، ولكنني فصَّلت الحديث في الحركة العلمية، وبيَّنت ما لها وما عليها.
أما الباب الثاني فقد خصصته لفنون الشعر التقليدية: أغراضها، ومضامينها، حيث رسمت فيه حالة فنون الشعر التقليدية، التي كانت ما تزال تدبُّ على الساحة الشعرية المملوكية، وجاء ترتيب الفنون تبعاً لكم الشعر الذي وجدته في كل فن، فقدمت الفن الأكثر كمَّاً على غيره من الفنون، وهو المنهج الذي اتبعته في دراسة فنون الشعر المستحدثة كذلك، فجاء شاملاً للفنون الآتية: المديح، الحنين، الرثاء، الهجاء، الغزل، الخمريات، الوصف، والفخر، وضمَّ هذا الفصل فنوناً أخرى، كالشكوى، والوعظ والإرشاد، والاعتذار والعتاب، والحكمة، والشعر التعليمي، والإجازة، والسؤال والجواب. وناقشت حالها الذي وصلت إليه من سطحية وتقزُّم في الأفكار والمعاني، كما عرضت لأعلام كل من هذه الفنون عرضاً، استنفذت فيه كل ما أملك من مصادر ومعلومات، وقصدت من وراء ذكر مؤلفاتهم بشكل مفصَّل إلى دفع الباحثين والدارسين إلى دراسات معمقة حول هذه الأعلام، ولكن لم يكن بالإمكان الترجمة لأعلام بعض الفنون، وذلك لأحد أمرين: فقد يكون العلم قد تُرجِم له في فن آخر، فلا يجوز إعادة الترجمة له في هذا الفن، أو أن نتاج العلم في هذا الفن لم يصلنا كاملاً، أو في كمٍّ كبير يتيح لنا الجزم بأنه علم في هذا الفن أو ذاك، أما الأمر الأول فقد كنت أحيل القارئ إلى مكان ترجمة العلم من البحث، وأعتذر في الأمر الثاني عن ترجمة العلم، وبيان إسهاماته في هذا الفن.
ودرست في الباب الثالث فنون الشعر المستحدثة: أغراضها ومضامينها، وكنت أحاول ـ قبل أن أدرس الفن نفسه ـ أن أعرج بإلمامة تاريخية على نشأة كل من هذه الفنون، وأثبت بوضوح أن هناك فنوناً مستحدثة كانت مملوكية الولادة والنشأة والحياة، سواء أكانت من العصر المملوكي الأول وهو الغالب، أم من العصر المملوكي الثاني وهو الأقل النادر، وأشرت إلى التعمق واتخاذ الشكل النهائي لكل فن من هذه الفنون في هذا العصر. وأهم هذه الفنون التي درستها تبعاً للكمِّ الشعري في كلٍ منها: المديح النبوي، والتصوف، وفن السخرية والفكاهة، والإخوانيات، والألغاز، واتبعت في ترجمة أعلام هذه الفنون المنهج الذي اتبعته في تراجم أعلام الفنون التقليدية.
أما الباب الرابع، فقد خصصته للحديث عن أنماط القصائد وأشكالها، تلك الأشكال التي كان لها مكان بارز في شعر العصر، وجاء هذا القسم في أربعة فصول، كان الأول منها خاصاً بالبديعيات وأعلامها، والثاني بالموشحات وأعلامها، والثالث بفن الدوبيت، أما الرابع فكان موضوعه الفن التائي وأعلامه. وجاء الباب الخامس في خمسة فصول: عالجت في الأول ظواهر عامة يلمحها الدارس لشعر العصر، وفي الثاني نهج القصيدة المملوكية، وفي الثالث بناءها، وفي الرابع موسيقاها، وفي الخامس الاتجاه البديعي فيها. وقد وجدت أن الحديث والنماذج الشعرية قد يتكرر ورودهما في هذا الباب، وذلك عندما كانت الضرورة تلجئني لبيان خصيصة من الخصائص، وذلك لعدم امتلاكي نماذج أخرى تفسرها أو تشير إليها.
وكان الباب السادس خاصاً بالصناعات الشعرية وشعر العلماء، نظراً للعلاقة الوطيدة التي وجدتها بين العلماء وهذه الصناعات، فقد خلبت ألبابهم، فراحوا يتندرون بها تندرهم بسلعة مفقودة، وقد وجدت أن هذه الصناعات وصلت على أيديهم إلى درجة الغثاء، الذي لم تكن له فائدة للحركة الأدبية عامة، والحركة الشعرية خاصة، لذا فهي لم تضف جديداً يمكن الإشارة إليه، بل أساءت في نظر أهل العصر أنفسهم، وفي نظر باحثينا المعاصرين، إلى الشعر يوم ذاك، لدرجة يمكن أن نعزو هذه النظرة الضيقة لشعر العصر عند المعاصرين إلى هذه الصناعات. وقد توزَّع هذا الباب على قسمين: عالجت في الأول منهما إسهام العلماء في شعر العصر، بعد أن عرضت لنوع الثقافة التي امتلكوها في مراحل دراستهم المختلفة، وقد وجدت أن هؤلاء العلماء الشعراء قد شكَّلوا ظاهرة مميزة في الحياة الأدبية بشكل عام، وفي الحياة الشعرية بشكل خاص يوم ذاك.
ووزعَّت الحديث في القسم الثاني على فصلين: درست في الأول منهما الصناعات التي يمكن للقارئ أن يفهم المضمون الذي تحتويه، وهي صناعات القافية: كالاكتفاء، والقوافي المشتركة، وذوات القوافي، ولزوم ما لا يلزم، ودرست في الفصل الثاني الصناعات الأخرى، التي كانت أكثر تعقيداً وأقل فائدة في المضمون، وهي: الشعر الهندسي، والشعر المحبوك الطرفين، وشعر ما لا يستحيل بالانعكاس، والتصغير، والتصحيف، والإعجام والإهمال، والقصائد المتائيم، ولم أر مبرراً لدراسة خصائص هذه الصناعات، فهي إلى علم البديع أقرب منها إلى الشعر، فخصائصها وسماتها لا تحتاج إلى فضل بيان.
ولم يكن في نيتي قبل أن أدرس العصر في مصادره الأولية، أن أخصص باباً لفنون الشعر غير المعربة، ولكنني اكتشفت في أثناء سير العمل في البحث أن هذا النوع من الشعر كان من الأهمية في ذلك العصر، مما جعله معبراً عن التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما لم يعبِّر عنها فن شعري معرب وهكذا فقد رأيت أن هذه الفنون سوف تثري البحث، وأنها قد تحتوي من الجديد ما يؤهلها لأن تكون أحد أقسام هذه الدراسة، وكان أستاذي المشرف قد أضاء لي الضوء الأخضر مشكوراً، فخصصت الباب السابع لفنون الشعر غير المعربة: أغراضها ومضامينها
وقد جاء هذا الباب في تمهيد وأربع فصول، سوَّغت في التمهيد لدراسة هذه الفنون في دراسة هدفها الأصيل دراسة الشعر المعرب، وناقشت في الفصل الأول فن الزجل: أعلامه وولادته التاريخية زماناً ومكاناً، وعرضت لمسيرته حتى وصل إلى هذا العصر، حيث بدأ مع فن المواليا يطغيان على ما عداهما من فنون الشعر الأخرى، معربة وغير معربة، وفعلت الشيء نفسه في الفصل الثاني مع فن المواليا، وفي الثالث مع فن الكان وكان والقوما، أما الفصل الرابع فقد خُصِّص لدراسة خصائص هذه الفنون، وقد شملت هذه الدراسة المعاني والأفكار وأساليب الصنعة التي سيطرت عليها.
أما الخاتمة، فقد كان موضوعها النتائج التي توصل إليها البحث في شعر العصر، وقسمت هذه النتائج إلى قسمين: نتائج خاصة بالدراسة الفنية، ونتائج خاصة بالدراسة التاريخية، وبيَّنت قيمة كل من هذه النتائج من الناحية الفنية أو الفكرية أو التاريخية، إذ وجدت أن قيمة هذا الشعر الذي هو موضوع هذه الأطروحة، كان في تعبيره عن الذات العربية في كثير من مناهج حياتها المعاصرة، إذ لمست الشبه الواضح بين كثير من مجريات الأمور في العصر المملوكي ومظاهر الحياة في عصرنا، وخلصت بأن نمطية الحياة المملوكية وحضارتها ما زالت تهيمن على كثير من أمورنا، وأننا نحتاج إلى فترات قد تطول للتخلص من هذه النمطية. وبيَّنت أن هذه النتائج لا يمكن الزعم أنها قاطعة مانعة، وأن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، إذ تبقى خاضعة لكثير من البحث والدرس في شعر العصر، في دراسات تقوم بها أجيال الباحثين الجدد.
وخدمة للباحثين في شعر العصر وأدبه، قمت بصنع فهارس تفصيلية متخصصة لهذه الدراسة، تمثَّلت في فهرس الأعلام، وفهرس الأماكن، وفهرس الشعراء المترجم لهم في متن البحث، وفهرس أسماء الكتب الواردة في متن البحث كذلك، وفهرس قوافي الشعر، ثم فهرس المحتويات.
أما المنهج الذي رأيته أكثر ملاءمة لهذه الدراسة وسرت عليه، فقد اختلف وتراوح بين نوعين من مناهج البحث، فقد سرت على هدى من المنهج الوصفي التحليلي في الدراسة التاريخية في الباب الأول، أصف الأحداث وصفاً موجزاً، ثم أحللها لأخرج بالنتيجة التي يقتضيها هذا التحليل، فقد وجدت في هذا الباب من الدراسة أن التاريخ وأحداثه في ذلك العصر، يمكن أن يقوداني إلى نتائج تفيد الدراسة الأدبية، لأن العودة إلى النصوص التاريخية تمثل عودة إلى المعطيات والظروف، التي شكَّلت الأرضية التي نما فيها الشعر يوم ذاك، بغض النظر عن الكيفية التي تمَّ فيها هذا النمو، لقد استُخدِم الشعر في الحياة الاجتماعية استخداماً مكثَّفاً، ولكن التاريخ لم يستخدم حتى الآن في الأدب مثل هذا الاستخدام، على الرغم من التفاعل العميق بين الحياة الأدبية والحيوات الأخرى في ذلك المجتمع، ومن هنا كان استخدام المنهج الوصفي في عرض الأحداث التاريخية وبسطها منهجاً يؤدي إلى رسم الأطر، التي تشكلت حول الأدب عامة والشعر بوجه خاص، فسارت به هذه السيرة التي نتعرض لها في هذه الدراسة، ومن هنا كذلك يصبح هذا الباب كله ذا وظيفة هامة، تكشف المعاناة التي عاشها الشاعر يوم ذاك، وجعلت من إبداعه أمراً مشكوكاً فيه.
ولم يكن لهذا المنهج من مدخل إلى الدراسة الفنية للشعر، فلجأتُ إلى المنهج التطبيقي الذي يستقرئ النصوص، ويصفها في الفن الذي تنتمي إليه، ومن ثمَّ يفسِّرها ويشرحها، ليبيِّن دلالتها في هذا الفن أو ذاك، ومن ميزات هذا المنهج أنه يبيِّن إلى أيِّ مدى، وفي أيِّ وجهة سار هذا الفن أوذاك، وهو بذلك يرسم صورة الواقع الفني الذي عاشه النصُّ، من حيث مستوياته الفنية واللغوية، وهو بعد ذلك ـ أي المنهج التطبيقي ـ منهج لا يزال بكراً قابلاً لدراسات كثيرة في المضمون الشعري، وطرق الكشف عن هذا المضمون، وهو بعد ذلك أيضاً نوع من النقد الذي يحدد مسار المضمون، ومقدار ما أصابه من تحوِّل أو تعمٌُّق أو تسطُّح، كما يحدد مسارات الألفاظ والتراكيب ومدى ارتباطها بالمضمون، ولذا كان هذا المنهج أكثر ملاءمة لهذه الدراسة الفنية.
ولكن لا بد من تقرير حقيقة اعتمدتها على مستوى الدراسة الفنية ككل، وهي أن الهاجس التاريخي كان يسيطر عليَّ أثناء دراسة فنون الشعر وأشكاله وصناعاته، لذا كان أول همي أن أؤرخ لهذه الفنون والأشكال والصناعات، تأريخاً يبقى خاضعاً لكثير من النتائج التي قد تصل إليها الدراسات الأدبية لنتاج العصر كله إن شاء الله، وكان من آثار هذا الهاجس أن عرفّت بالمشهورين في كل فن تعريفاً مسهباً أحياناً، وموجزاً أحياناً أخرى، ولكني حرصت على أن يتضمن هذا التعريف الإشارة إلى مؤلفات المعرَّف بها جميعاً.